لم يبتعد

By 27/06/2015April 26th, 2016نصوص سردية

كل ما سيورد أدناه.. هو قصة واقعية قد أخذت من مصدر ذو ضمانة، و لا اتحمل وزر أي شيء يذكر فيها …

خرج من منزله في ليلة ظلماء، يتنعل حذاءه الجلدي الأبيض، و يرتدي في يده خاتم الثمين من الزبرجد الأخضر، يخف السير، إن مضى بجد فسيصل لعين عذاري عند الشروق، كما اعتاد أن يفعل في العادة، لا عمل لديه ليشغل باله، لا أسرة ليسعى في أمرها، وحدة بالحياة، يخرج كل صباحٍ مرتدياً أفضل ما يملك، حاملاً آماله معه، يغتسل في العين قبل أن يلتم الناس، ثم يسعى للمقهى الشعبي الذي يملك مكانه، يعيش على أجار ذلك المقهى المكتظ، جدوله كان منظم جداً، لا يتأخر عن نشره الأخبار التي تبدأ عند الثامنة صباحاً عبر الراديو الذي يوجد هناك، لم يتخلف عن ذلك يوماَ، كما أنه لم ينوي فعل ذلك اليوم، توقف عند مسجد الصبور لصلي صلاة الفجر، لم يكن يصليها إلا هناك، بعد أن يمضي كل دربه الطويل إليه، أكمل الصلاة بتوجه، ثم رفع يديه للسماء، تضرع بقلب سليم، “اَللّـهُمَّ يا مَنْ دَلَعَ لِسانَ الصَّباحِ بِنُطْقِ تَبَلُّجِهِ، وَسَرَّحَ قِطَعَ الّلَيْلِ الْمُظْلِمِ بِغَياهِبِ تَلَجْلُجِهِ …”، كان دعاء الصباح ملاذه من جور السنين، يستأنس به، يرى به كمال الانقطاع للرب الجليل، “وَاسْمَعْ نِدائي وَاسْتَجِبْ دُعائي وَحَقِّقْ بِفَضْلِكَ اَمَلي وَرَجائي يا خَيْرَ مَنْ دُعِي لِكَشْفِ الضُّرِّ وَالْمَأمُولِ لِكُلِّ عُسْر وَيُسْر بِكَ اَنْزَلْتُ حاجَتي فَلا تَرُدَّني مِنْ سَنِيِّ مَواهِبِكَ خائِباً …”، لم يكمل الدعاء حتى فاضت عيناه بالدموع، بخمس و ثلاثون عاماً من العيش وحيداً لم يرى محمد أحداً سوى الباري ليلتجأ له، خرج من المسجد، تغلبه السكينة و وقار، لم يبقى الكثير حتى يصل، القليل فقط، مع نسيم الهواء الجميل، بين الجداول و خضرة البساتين، شبحت عيناه بعذاري، عين الماء التي كان يعشقها فعلاً!! أسرع خطواته، ارتى إزاره الذي كان قد جلبه معه، تجرد من ثوبه، خلع نعليه، هرول بخطواتٍ متباعدة و رمى بنفسه حُراً بذلك الماء البارد، ارتمس فرحاً، قبل أن يسبح بين جنبات العين الدائرية، كانت أشعة الشمس الذهبية حينها تنسل من بين النخيل الباسقات، ثم تنير عينه ذات اللون الأزرق المميز، تشع العين جميعها، معلنةً بدأ النهار، معاشاً للناس، رحمةً و بركة، هذا هو وقته للخروج، كي لا يتأخر عن موعده في المقهى، ارتدى ثوبه، تطيب مما حمل معه، انتعل حذاءه، خرج يمشي مختالاً بين البساتين الشاسعة، صوت العصافير، خرير الجداول، رياح الربيع الهادئة، كان مسروراً حد التشبع، حتى قطع نصف المسافة، سقط قلبه فجأة!! أين خاتمه ذو حجر الزبرجد الجميل، أين هو!!! ليس في إصبعه، ليس في جيبه، هذا الخاتم كان رفيقه في أسفاره العديدة للعراق، صديقه و آخر من تبقى له من ريحة أهله الزاكية، أَيضيع الآن؟ بعد كل محاولات الحفاظ عليه على مر السنين الخوالي، إن لم يكن في مخلاته، و لا في جيبه، و لا يرتده، إذاً هو حتماً قد مضى في ماء العين، هل سيحصل عليه؟ لم يكن لديه وقت ليفكر، جرى بأقصى ما يملك من قوة، أصبح يلهث، يتدفق الدم بشدة في أوعيته، تتصاعد الحرارة في جسده، يجري و المذياع يدار في المقهى، يصل للعين بتعب شديد، “أخبار هذا الصباح…”، لم يكن أحدٌ هنالك، كانت العين كما تركها خالية، دون تدبر، قفز بتهور في العين، بثوبه، حذاءه، حتى مخلاته أصبحت في المياه، لا يعلم أين يبحث، كالإبرة في كومة قش، نقطة من عدم، كان الخاتم غالياً عليه لتلك الدرجة العظيمة، “إن كان في العين، فهو عند القاع طبعاً”، أفكاره مشتتة، عند القاع العميق، عيناه لا تسعفه ليرى شيئاً، كانت الناس تتسائل فيما بينها عنه، لكنه لم يكن هنالك ليجيبها، تحت المياه المعتمة، كان كالمجنون يموج بلهفة، تجري الأقدار، “يا الهي!!”، تشنجت عضلات رجله، خمس أمتارٍ تحت الحياة، على شفى الموت، لا صوت يرفع، لا همس يسمع، لا أحد هنالك سواه، عند القاع، يلفظ أنفاسه الأخيرة، تحتكم المياه منه، تندفع لداخل جسده، ببساطة… كان يغرق في صمت، يأس، رAفع عينه للأعلى، علّه ينظر لآخر نورٍ في دنياه، لكنه لم يبصر النور ذلك، كان هنالك خيالاتٍ تحول بينه و بين الضياء، أيدٍ تلامسه، اتسعت عيناه، مدهوشاً من قدره، وصل للمقهى فتاً صغيراً يبحث عنه، مضى بين الرجالات يسأل عنه، كان العجب يغلبهم، محمد وحيدٌ لا أسرة له و لا أهل، لمَ يسأل هذا الفتى عنه؟ بل أينه هو! هو يُرْفع من أدنى العين لأعلاها، عن يمينه وعن شماله، رجلين لم يحسن التعرف على ملامحهم، غلبهم الوقار، اسندوه قرب مخلاته التي قد أخرجت قبل ذلك، كانوا للتو قد أرجعوه من موتٍ مأكد، أقترب أحدهم من أذنه، همس بصوت ملئه الرفق، “يا محمد هنالك فتاً ينتظرك في المقهى، لا تتخاذل عن إدراكه، فإنه سبيلٌ لحاجتك”، لم يستعد محمد بصره إلا و هما قد افترقا عنه، مبهمان، لم يعرفهما قط، لكنه حينما عاد مسلوب القرار، أدرك الفتى، فوجده مبعوثاً من أمه الأرملة، ليحصل على جواب الموافق و صنع أسرته الأولى، لم يكن يشك في ذلك أبداً، لا يعرف بالخبايا سوى المغيب خلف صفائح النور، الشمس خلف السحاب، لم يتردد عن قولها خوفاً، بل صدح بها في كل محفل حتى ظُن أنه قد فقد عقله، كان يؤمن أن الحجة (عج) و الخضر (ع) هما من أدركاه، فحينما يأس من ذاته، لم ييأس من قوة الله، لم يبتعد عن صدر الخلائق، لم يبتعد قيد أنملة.

Leave a Reply